وقبل نهاية القرن الثاني الهجري أرسى الثقافة والمعارف الشيعية الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ,فاصبحت هذه الثقافة نموذجاً لحرية الرأي والبحث، فاقتدت الفرق الإسلامية الأخرى بالشيعة في المباحث الكلامية والعلمية. وحرية البحث في أمور الدين، فقد بدأت في الإسلام بعصر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وبعد انتشار المذهب الجعفري.
وقد تولى الإمام الصادق (عليه السلام) بنفسه تدريس هذه العلوم، ولم يستبعد منها الفلسفة أو الحكمة أو العرفان، لأن هذه العلوم كانت تمثل المبادئ والمجادلات التي يستعان بها في إثبات حقيقة الله والكون، وهي علوم كانت قد وصلت فعلاً إلى المدينة.
وقد ابتدأ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) بتدريس مبادئ الفلسفة أو أسلوب الاستدلال والجدل المنطقي، وكانت مباحث الفلسفة في مدرسته تتناول في بادئ الأمر آراء سقراط وأفلاطون وأرسطو ونظريتهم.
وأن مجلس الإمام الصادق (عليه السلام) ومدرسته كانا يمثلان منبراً حراً لتلامذته ومريديه، لهم أن يسألوا، ولهم أن يعترضوا، ولهم أن يعبروا عن آرائهم وإحساساتهم بحرية تامة، كما أن من حقهم أن ينتقدوا آراء أساتذتهم، ولم يكن الإمام يفرض على تلامذته رأياً معيناً، ولا كان يطلب منهم الإذعان لرأيه، ومع ذلك، فقد كان الأمر ينتهي دائماً بإذعانهم، بالنظر إلى الأسلوب العلمي الذي كان الإمام يتوسل به للتدليل على رأيه بالحجة الناصعة والمنطق السليم والبيان الرائق.
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يؤمن بما يقول، ويأخذ بالواقع لا بالمثاليات، ولهذا لم يتوسل أبداً في دروسه بأسلوب (البوتوبيا) . الذي سيطر على تفكير المجتمع الأوروبي منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، ومن هنا انتفت من دروس الإمام الصادق (عليه السلام) أي دعوة إلى قيام حكومة مثالية لا تتفق مع واقع الحياة في المجتمع البشري.
وقد اغتذت الثقافة الشيعية من هذه الحرية التي هيأت لهذه الثقافة أسباب الذيوع والانتشار الواسعين، وأقبل عليها الراغبون في حرية البحث والاستدلال، كما أقبل عليها الموالون للشيعة مدفوعين إلى ذلك برغبة باطنية. وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقاة على اختلافهم في الآراء والمقالات، وكانوا أربعة آلاف رجل16.
ومن يتصفح التاريخ قبل قيام الدولة الصفوية، يلاحظ أن الحكومات الشيعية التي قامت في البلاد الشرقية كانت معدودة، وأشهرها حكومة البوهيين، كما يلاحظ أن هذه الدول لم تتوسل بالقوة أو النفوذ السياسي لنشر المذهب الشيعي، وإنما اقتصرت على التمسك بالتقاليد والأعراف والمبادئ الشيعية، وفي مقدمتها الاحتفالات الدينية في أيام التعزية، وبصورة خاصة يوم عاشوراء عام 61 للهجرة الذي استشهد فيه الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) في كربلاء، ولم يكتب لدولة شيعية أن تستقر طويلاً في بلاد الشرق بعد البوهيين، باستثناء دولة الفاطميين في غرب العالم الإسلامي، إلى أن قامت الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري (1502ـ 1736م).
ومع ذلك، أخذ التشييع ينتشر في ربوع الشرق بثقافته العلمية المنطقية المبسطة، بإصرار وثبات في مقاومة التيار الحكومي المعادي له، وإن لم ينجح في إنشاء مركز سياسي أو نظام حكومي يستند إليه، أي أنه نجح بالفكر لا بالسلطان، وبالروح لا بالقدرة المادية.
ان الامام كان يستهدف بعمله ومدرسته الاهداف الاتية:
اولاً: حماية العقيدة من التيارات العقائدية والفلسفية والالحادية والمقولات التي لا تنسجم وعقيدة التوحيد التي نشأت كتيار كونته الفرق الكلامية والمدارس الفلسفية الشاذة, لذا انصبت جهود الامام عليه السلام على الحفاظ على اصالة عقيدة التوحيد ونقاء مفهومها, وايضاح جزئياتها وتفسير مضامينها وتصحيح الافكار والمعتقدات في ضوئها ولذا فقد درب تلامذته امثال هشام بن الحكم على الكلام والجدل والمناظرة والفلسفة ليقوموا بالدفاع عن عقيدة التوحيد وحمايتها من المعتقدات الضالة, كما الجبر والتفويض والتجسيم والغلو وامثالها من الاراء والمعتقدات الشاذة عن عقيدة التوحيد.
ثانياً: نشر الإسلام اما الهدف الثاني لمدرسة الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وجهوده فهو نشر الإسلام وتوسيع دائرة الفقه والتشريع, وتثبيت معالمها وحفظ اصالتها, إذ لم يُرو عن احدٍ من الحديث ولم يُؤخذ عن امام من الفقه والاحكام ما أًخذا عنه, اساسا وقاعدة لاستنباط الاحكام لدى العلماء والفقهاء والسائرين على نهجه والملتزمين بمدرسته والمنتسبين الى مذهبه الذي سُمي باسمه (المذهب الجعفري).
تميز عصر الامام الصادق عليه السلام بأنه عصر النمو والتفاعل العلمي والحضاري بين الثقافة والتفكير الاسلامي من جهة, وبين ثقافات الشعوب ومعارف الامم وعقائدها من جهة اخرى. ففي عصره نمت الترجمة, ونقلت كثير من العلوم والمعارف والفلسفات من لغات أجنبية الى اللغة العربية .
أن المنهل العلمي للمذاهب الأربعة السنية مصدره الامام الصادق ( ع ) وسنقراء أقوالهم في وصف الامام عليه السلام من الاحترام والتوقير .ولابد من ايضاح مسئلة قبل الحديث في هذا الموضوع ..وهي في القرن السادس الهجري أصدر الخليفة العباسي المنتصر بالله امرا بإغلاق باب الاجتهاد وحصر التقليد في المذاهب الفقهية الأربعة لدى السنة 17.
وكان من تلاميذ الامام جعفر الصادق (ع) التالي ذكرهم :ـ
1. أبو حنيفة 18 النعمان بن ثابت بن زوطي .. وهو أحد المذاهب الأربعة عند أبناء السنّة، وحاله أشهر من أن يُذكر. يقول أبو حنيفة: «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد... ثم قال أبو حنيفة: أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.».
ويقول :ـ لما أقدمه المنصور بعث اليَّ فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من المسائل الشداد. فهيأت له أربعين مسألة ثم بعث إليّ أبو جعفر المنصور وهو بالحيرة، فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر مالم يدخلني لأبي جعفر المنصور. فسلمت وأومأ فجلست، ثم التفت إليه قائلاً: يا أبا عبدالله هذا أبو حنيفة. فقال: نعم أعرفه، ثم التفت المنصور فقال: يا أبا حنيفة الق على أبي عبدالله مسائلك. فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا وهم يقولون كذا ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا وربّما تابعهم وربّما خالفنا حتى أتيت على الأربعين مسألة، ما أخلّ منها مسألة واحدة. ثم قال أبو حنيفة: أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»19. وكان أبو حنيفة يستنبط فقهه من القرآن الكريم وما صح عنده من الحديث مع توسع في استعمال الرأي والقياس . وقد تلقى الدرس لمدة سنتين عند الإمام جعفر الصادق حيث اشتهر عنه قوله في مدح الإمام : ( لولا السنتان لهلك النعمان ) .
2. أحمد بن حنبل وهو آخر المذاهب الأربعة وأقلها أتباعا وقال فيه ابن خلدون : فأما أحمد بن حنبل فمقلدوه قليلون لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية بعضها ببعض20. وقد كان ابن حنبل في رأي العلماء القدماء - كابن جرير وابن قتيبة والمقدسي وابن عبد البر - من رجال الحديث لا من الفقهاء 21. وما يشهد على ذلك أنه لم يكتب أي كتاب في الفقه ، وإنما اشتهر بكتابه المعروف بمسند أحمد والذي يحوي على أربعين ألف حديث . وله أيضا " كتب أخرى كطاعة الرسول ، الناسخ والمنسوخ ، والعلل .
3. محمد بن إدريس الشافعي المولود في غزة وهو يتميز من بين المذاهب الأربعة بتنظيمه على أصول موضوعة وقواعد ثابتة ومضبوطة ضبطا " دقيقا " ، والمذهب بجملته وسط بين أهل الرأي وأهل الحديث 22. وقد كان للدولة الأيوبية في مصر بقيادة صلاح الدين العامل الأقوى في نشر مذهبه هناك حيث منع تدريس المذهب الشيعي في الجامع الأزهر الذي أسسه الفاطميون ، واستبدل بتدريس مذاهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ، وبنى لهم المدارس ورغب الناس فيها 23.
4. مالك بن أنس المدني أحد المذاهب الأربعة وهو يمني الأصل .يقول مالك بن أنس: «ما رأت عين ولا سمعت اُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً.».24. وكذلك يقول مالك 25: «إنه كان من العلماء العبّاد الزهّاد، ولم يمنعه زهده وتبتله عن الكسب وطلب المعاش من وجوهه المشروعة مع الإجمال في الطلب والاعتدال في الإنفاق وأداء الحقوق، كما أنه ينهى عن الكسل والبطالة». يقول مالك بن أنس: «اختلفت الى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إما مصلّياً وإما صائماً وإما يقرأ القرآن، وما رأيته قط يحدث عن رسول الله إلاّ على الطهارة، ولا يتكلم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العبّاد والزهاد الذين يخشون الله 26. وكان انتشار مذهبه على أيدي القضاة والأمراء في الأندلس وشمال إفريقيا حيث حل مذهبي الأوزاعي والظاهري اللذين كانا سائدين هناك . ولا زال المذهب المالكي المذهب الرئيسي في بلاد المغرب العربي .
وأهم دعاة المذهب هم : القاضي أبو بكر العربي وابن عبد البر القرطبي والقاضي عياض السبتي وأبو الوليد الباجي وابن القطان الفاسي 27.
5.سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي وكان أحد تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، وهو أحد الأئمة المجتهدين ، وله مذهب لم يدم العمل به لقلة أتباعه ،وأراد الخليفة أبو جعفر المنصور قتله ، فهرب . وبقي مذهبه معمولا به لغاية القرن الرابع . وقد لقب بأمير المؤمنين في الحديث وسيد الحفاظ ، وقال ابن المبارك : كتبت عن ألف شيخ كان سفيان الثوري أفضلهم . وقال القطان : الثوري أحب إلي من مالك 28.
6. . يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري من بني النجّار تابعي، كان قاضياً للمنصور في المدينة، ثمّ قاضي القضاة، مات بالهاشميّة عام 143.ذكر ذلك الرجاليّون من الشيعة.
. 7.عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح المكّي، وقال ابن خلكان : عبد الملك أحد العلماء المشهورين، وكانت ولادته سنة 80 للهجرة .و ذكرته رجال الشيعة.
8.أيوب بن أبي تميمة السجستاني البصري، وقيل السختياني، والأول أشهر، مولى عمّار بن ياسر وعدُّوه في كبار الفقهاء التابعين 29.
9. شعبة بن الحجّاج الأزدي كان من أئمة السنّة وأعلامهم وكان يفتي بالخروج مع إِبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن، وقيل كان ممّن خرج من أصحاب الحديث مع إبراهيم بن عبد اللّه. 30..قال ابن الحجاج وهو الشاعر المشهور:
يا سيداً أروي أحاديثه رواية المستبصر الحادق كأنني أروي حديث النبي محمد عن جعفر الصادق .
10. محمّد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي والسير، مدنيّ سكن مكّة، أثنى عليه ابن خلكان كثيراً.31.
11. سفيان بن عيينة بن أبي عمران الكوفي المكّي ولد بالكوفة عام 107 ومات بمكّة عام 198، ودخل الكوفة وهو شاب على عهد أبي حنيفة 32.
12