ان الاساطير التي ورثناها عن الحضارات القديمة كثيرة ومتشعبة وجميلة واذا كنا لا نؤمن بها فإنها تستهوينا وتدفعنا الى ان نتدبر آثارها ومن تلك الاساطير (حكاية جنوب) فقد قال اهل اور القدامى ومعروف ان اور حضارة قديمة عرفت في جنوب العراق وبالتحديد في منطقة الناصرية يقول أهل اور ان جنوب هذه هي اله الخير لذا فإنك ترى معظم المناطق الجنوبية في العالم تتكون من ارض خصبة تحيط بها الانهار وتملأها الاشجار ويحفها الخير وجنوب العراق يحظى بحظ كبير من الزراعة, والزراعة هي مصدر رزقهم ويطلق عليهم اهل الريف ولهم نمط خاص في حياتهم كما لهم عاداتهم وتقاليدهم.
وأهل الريف في كل مكان من العالم يختلفون بهذه الاساليب والتقاليد عن أهل المدينة وأهل البادية لذا فإن غناءهم قد تأثر بالبيئة التي احتضنتهم وبالانهار التي احيطت بهم فتكيفت حناجرهم من تلقاء نفسها لتأتي منسجمة مع خرير المياه وزقزقة العصافير وحفيف الاشجار فكانت رطبة لينة يسهل على الاذن تقبلها ولأن حديثنا يختص بالغناء الريفي في العراق نقول ان هذه المنطقة كان حظها من التعليم ضئيلاً جداً.
بدأ الغناء الريفي في العراق بالانفراد فلم تكن هناك آلات موسيقية سوى (المطبج والناي) والمطبج لا يختلف عن المجوز الذي يصنع من الخشب فهو عبارة عن قصبتين لا يتعدى طولهما القدم الواحدة يربطان سوية وينفخان بالفم ومن خلال الثقوب التي تلامسها الاصابع يستخرج العازف الانغام.
اما الايقاعات فكان (الدنبك) الذي يصنع من الفخار وتغلف فوهته الكبيرة بالجلد المدبوغ وهو يشبه الايقاع الحالي المستخدم عند الفرق الموسيقية ولغاية بداية القرن المنصرم كان الغناء الريفي حبيس منطقته رغم ازدهاره فيها وولادة فنانين كبار وضعوا انماطاً غنائية جديدة وادخلوا في غنائهم ضروباً من الشعر الشعبي كالدارمي والعبودية والزهيري وقصائد من الهجع والموشح كما استطاع بعض المطربين وضع الحان بسيطة مقبولة لدى أهل الريف وقد كانوا ينظمون كلام الاغاني بأنفسهم.
ان السبب الهام الذي جعل الغناء الريفي ينحسر كل هذه الفترة البعيدة حتى بداية القرن العشرين هي انعدام وسائل الاعلام اولاً وتفشي الامية بين أهل الريف ثانياً لذا فإن الطفرة الافقية التي شهدها الغناء الريفي في العراق حدثت حينما دخلت شركات التسجيل البدائية الى العراق واستمعت الى الاصوات المهمة التي كانت تشدو في تلك الايام. وربما تكون سنة 1914 بداية لانطلاق الاغنية الريفية وكانت منطقة الناصرية مصدر اشعاع في تلك الفترة وكانت اصوات جميلة قد برزت تصدح في اسواق الناصرية وبساتينها وكان المتعهدون يلاقون صعوبات كبيرة جداً وهم يبحثون عن (جخير سلطان) كان هذا الفنان يتمتع بحنجرة قوية تتلاءم نبراتها مع تلك الطبيعة الجميلة لكنه كان يعيش في قرية نائية وبصعوبة استطاعت شركة (بيضفون) ان تأتي به الى بغداد وكان قد أسس مدرسة ريفية مهمة ولكنه وهذه من المفارقات كان لا يفهم ماذا يغني وكان يقدمه مسجل الاسطوانة بعدما يستمع اليه هو ومن يصاحبه من الموسيقيين ليفهم على اي نغمة هو يغني.
أصوات واسماء
أما أبرز الاسماء التي اشتهرت بهذا النوع من الغناء فهي ناصر حكيم, حضيري بوعزيز, مسعود العمارتلي والمطرب الريفي المهم داخل حسن وقد عاش هؤلاء في الفترة الزمنية نفسها, وكان داخل حسن اوفر حظاً من اخوانه في مجال التسجيل حيث تسارعت إليه الشركات لأنه يمتاز بحنجرة غريبة فيما تحمله من طبقات واضحة رشيقة وبحسه تضيف اليها حلية جميلة وكان مطرباً ذكياً رغم ابتعاده عن العلمية كان رجلاً امياً لكنه بذكائه يختار كلاماً سرعان ما يدخل الى القلوب كذلك فإنه يمتاز بذاكرة قوية جعلته يغني كل الاطوار الريفية بطريقة رشيقة واداء متقن غنى المشكل من المخالف والعياش من الحجاز والحياوي والمحداوي والشطري والمستطيل ولم يترك نغمة الا وترك بصماته عليها ولم يغادر اي طور كذلك فإنه استطاع ان يوظف الاهزوجات التراثية ولم ينكر دور ناصر حكيم الذي اشتهر بصوته العالي الجهور وكان شاعراً وملحناً وله اغان مهمة في الغناء الريفي رددها المطربون من بعده اهمها الاغنية التي اشتهر بها الفنان حسين نعمة (سبتني الحلوة البنية وما خلت عقل بيه).
اما الفنان حضيري بوعزيز فهو لا يقل شأناً عن زملائه كان خياطاً في سوق الشيوخ يقضي نهاره بالغناء حتى مل منه استاذه وابعده عن الدكان فركب ناصية الفن التي اوصلته الى الشهرة وله حكايات طريفة من خلال الاغاني التي ألفها ولحنها وقام بأدائها.
الا ان قصة مسعود العمارتلي تحمل نوعاً من الغرابة وقبل ان ندخل بتفاصيل حياته نوضح الآتي:
ان ناصر حكيم وداخل حسن وحضيري بوعزيز كلهم من سكنة الناصرية (ذي قار) وهم اصدقاء يتبادلون الكلام والانغام وان مسعود العمارتلي هو من سكنة مدينة (ميسان) العمارة وان اسلوبه في الغناء يختلف تماماً عن اساليب الثلاثة الادائية اما وجه الغرابة في قصة مسعود العمارتلي فإنه امرأة وليس رجلاً, امرأة كانت تعمل في بيت احد شيوخ مدينة ميسان نبغت منذ طفولتها بالغناء وكان لها صوت جميل وهي تحفظ الاطوار الريفية المتداولة في ذلك الوقت وتؤدي أداء متقناً وبسبب التقاليد المتبعة في ذلك الوقت والعادات التي تحرم الغناء على الفتيات. ولأن الغناء كان يعصف بها ويجري في دمها ولان من سمعها اعجب بها وبصوتها كان لا بد لها ان تغني فهكذا اصبحت مسعود العمارتلي وارتدت ملابس الرجال وأصبح مسعود العمارتلي مطرباً مرموقاً لدى اهل الريف وله اسطوانات عديدة تحتوي على مجمل الاطوار الريفية بالاضافة الى اغان اعتبرها البعض من التراث الريفي ونقلها بعد التطوير الى اغان حديثة تستهوي الناس ومن اشهر اغانيه (براضا امشي براضا) واغنية (طر الفجر) ولم يكشف امر مسعود العمارتلي الا بعد ان حقق شهرة كبيرة. ولأهل العمارة مطربون كثيرون كذلك فإن لهم نغمة خاصة بهم تسمى طور (المحمداوي) ويقولون ان عشيرة ال بو محمد هي صاحبة الفضل في انبثاق هذا الطور من الغناء وهو من نغمة الصبا ويقرأ بالزهيري او المسوال. وله سبعة اوجه فكل عشيرة تقرأه بشكل يختلف عن العشيرة الاخرى. كذلك فإن لهم طور (الصبّي) والصبّي من نغمة النهاوند ويقرأ بالابوذية ويقولون ان الفئة (الصابئية) هي التي وضعت هذا الطور من الغناء فسمي باسمها.
الانتقال الى النجف
ولم يقتصر الغناء الريفي بعد ذلك على ما ذكرنا بل انتقل الغناء الى منطقة النجف فواسط فالحله وابتكرت الاطوار النجفي والحياوي والطوير جاوي وقد شهد عام 1939-1940 انتعاشاً فنياً حيث الاذاعة العراقية وشركات التسجيل والاجهزة المنتشرة حتى في المناطق الريفية كانت تروج للمطربين وكانت بغداد في الاربعينيات والخمسينيات محطة متطورة للفن العراقي والعربي وان احتكاك اهل الريف بالمطربين من اهل بغداد والموسيقيين المثقفين والمطربين العرب الذين كانوا يفدون الى بغداد لممارسة الغناء في نواديها الليلية المنتشرة كل هذه كانت عوامل ايجابية طورت قابليات اهل الريف البسيطة وتحسن الاداء وتعلم هؤلاء الرواد كيف يتعاملون مع الآلة الموسيقية وينسجمون معها كما ان هذه العوامل اضافت لهم خبرة كانوا يفتقدون اليها زمناً طويلاً وهي انهم قد تعلموا واستوعبوا الانغام واسماؤها والنغمات الموسيقية وطبقاتها.
وفي بداية الخمسينيات بدأت مرحلة جديدة من داخل حسن وحضيري بو عزيز بصورة خاصة حينما وجهت اليهما دعوات من خارج العراق من سوريا ولبنان ومصر ومنها انطلقا الى آسيا واوروبا وهما يحملان التراث الريفي العراقي غناء.
واخذا يسجلان الاغاني والاطوار الريفية في أحدث استوديوهات التسجيل في ذلك الوقت وبدأت الاذاعات العربية بالاضافة الى الاذاعة العراقية ببث تلك الاغاني والابوذيات بصورة منتظمة وكان لانتشارهما اثر ايجابي على الغناء الريفي حيث بدأت الاصوات الشابة تتوافد على بغداد ولمعت اسماء اصبحت فيما بعد امتداداً لهؤلاء الرواد ومنهم جواد وادي وعبدالواحد جمعة وعبد محمد وجبار ونيسه وفرج وهاب وكان الاخير اداء متميزاً واسلوباً جديداً ذلك لأنه يمتلك صوتاً يميزه عن باقي الاصوات.
وكل هؤلاء هم من مدرسة داخل حسن وحضيري وناصر حكيم. وهناك مدرسة ريفية متميزة لابد ان نعرج عليها وهي مدرسة عبد الامير الطويرجاوي. لمع هذا المطرب في الاربعينيات في قضاء طويريج الواقع بين الحلة وكربلاء الا انه غادرها الى بغداد وعاشر أهل المقام وتأثر بهم مما جعله متفرداً في اداء جديد. وكان يمتاز بذكاء خارق وحنجرة قوية ونفس طويل وهو شاعر موهوب كان ينظم الابوذية المولدة المرتبطة في المعنى ببيت او بيتين من الشعر العمودي صورة ومعنى فكان يقرأ المقام العراقي في بيتين من الشعر من نغمة الهزام ثم ينتقل الى طور الفيسي بالابوذية من النغمة نفسها وقد استمع اليه اهل الريف واعجبوا بأسلوبه واتبعوه ثم استمع اليه اهل المقام وتأثروا به واتبعوه ايضاً. وهو المطرب الوحيد الذي استطاع ان يجمع ما بين المقام والغناء الريفي, وله تسجيلات عديدة ايضاً وقد سافر الى دول متعددة.