لا شيئ يجيده العرب هذه الأيام أكثر من التسوّل والإستجداء والنواح على النكبات ! فالشعوبٍ مُنْفَعِلَة ساخطة على كلّ شيئ بدءًا من احساسها العارم بالظلم وقلة العدالة الدولية تجاه قضاياها المُلِحَّة ، مرورًا بسخطها الدائم من أنظمةٍ استنفدت كلّ مفردات اللغة في وصفها السيئ، وصولا الى فنّ الشحاذة السياسية الذي يمارسه الدبلوماسيون العرب أمام المجتمع الدولي، انتهاءً
باجتماعات ومبادرات ومجموعة "قمم" تعكس خلالا لا يستهان به من قلة النضج في معالجة الأزمات !
إن المتابع لسيرورة العلاقات الدبلوماسية الخارجية العربية في العصر الحديث، يلاحظ بشكل صارخ وواضح كيف اننا افتتحنا علاقتنا الدولية بالتسوّل منذ بداية استقلال الدول العربية أواسط القرن الماضي وحتى الآن، وأصبحنا ك"الشحّاذٍ" الذي لا يريد "لعاهته "الشفاء طالما أنه يحقق منها المكاسب والمنافع ، وهو الذي تعوّد على العيش مُمتهن الكرامة وعالةً دائمة على الآخرين !
وانحصر دور "الجماهير العريضة" وأمة "المليار" باستعراض صور الضحايا الدّامية، ورفع الأحذية ، وحرق الأعلام، والنواح على ضحايا المجازر وعدّاد المحارق، فيما يهرول "القادة " لاعادة انتاج شروط " الأزمة" تحت تسمية مبادرات !
هذه هي الصورة التي نبدو عليها شعوبًا وحكّامًّا ومثقفينا! وبعد ان كنّا نمارس هذه "المهنة " بخجل أصبحنا نمارسها "بإتقان" مذهل ، وكأننا ندور في مسرحية كلٍّ منا يعرف دوره المُعدّ له سلفًا.
فالشعوب تتظاهر! وهذا دورها المسموح به فقط ونقطة عالسطر: "كومبارس صوتي" . و"الحكام " يتكفلون بإعادة انتاج الأزمة والكارثة عبر "تسوّلهم الدبلوماسي " وسعيهم بين دول العالم بما يضمن لهم "استمراريتهم السلطوية" والحفاظ على "عروشهم " ومغانمهم ومصالحم واستقرار اقتصادهم .
والمثقفين والنخب والكتَّاب يدورون أيضًا في فلك الانقسامات السلطوية إما تسبيحًا بحمد هذا المسار وإمًّا إدانة لذاك المسار ، فيما ترتفع أصوات الفتاوي ب"الجهاد" والنصرة تارة ، وتارة بالاكتفاء" بالدعاء" من باب درء المفاسد المقدم على جلب المصالح !
وتضيع "الطاسة " وسط الهرج والمرج "الاعلامي " و فوضى "الفضائيات " وغابة "المقالات " ويحتار مسؤولو وسائل الاعلام اي مسار سيلتزمون، دون ان يغضبوا "السادة الداعمين من المعلنين" ودون ان يفقدوا رضى" الجماهير الحانقين" ويتحول المشهد كله الى كرنفالٍ مأساوي مجنون !
وبين هذا وذاك تعيث اسرائيل في الأرض جنونًا وفسادًا و قتلا وتدميرًا وارتكابًا لشتى انتهاكات الحقوق الآدامية، وهي تدوس بذلك على "كرامة الانسانية" ضاربة بعرض الحائط القيم البشرية والآخلاقية كلّها ! وهي تريد ان تُقنع شعوب الأرض ان "صواريخ" حماس المحلية الصنع سببًا وجيهًا وكفيلا بتحريك كلّ آلة الأرض العسكرية برًَا وبحرًا وجوًا! هازئة بالأمم المتحدة وكافة مؤسساتها العاجزة عن القيام بأبسط المسؤوليات الانسانية في مناطق النزاع !
ولست بمعرض الدفاع عن "الصواريخ" التي لا ترقى لهذه التسمية، أو مناقشة مدى جدواها وفعاليتها، كما لست بمعرض تبرير اي نوع من انواع العنف ولست أيضًا في وارد مناقشة "الحصار" الذي لا مبرر له في "العرف الانساني " وله ألف مبرر في العرف "السياسي " .
وفي هذه المنظومة "المادية الجشعة ": نعم! إفلاس بنكٍ عالمي واحدٍ أشدّ بأسًا ورعبًا على النظام العالمي من "ألف ضحية آدمية " ، نعم! هذه هي الحقيقة المرعبة التي يجب ان يعيها أصحاب الألفية الثالية ! وبلغة المصالح لا مكان " للأخلاق" أين كان منبعها (انسانية المصدر ام دينية ام عقائدية ...) وانما تُسخَّر العقائد كلها لخدمة السياسي، وتُسخر القضايا الانسانية لتحقيق المكاسب العملية ، وهذه هي قمة العنف الذي يتحكم بسلوك الامم ويدفع ثمنه الانسان !
اذن المادية المفرطة هي المسيطرة على كل العلاقات فيما يُعرف ب "النظام العالمي " الحالي، وما نراه من صراعات في مختلف اقطار الارض هو جزء من الدوامة تلك؛ وما قضية غزة الا الانعكاس الذي تسعى من خلاله الدول الاقليمية (اسرائيل – تركيا – مصر – ايران...) الى احتلال أفضل موقع "سلطوي" عبر تشكيل محاور لتحسين الشروط "السياسية والاقتصادية وان كان عبر الاتجار بقضايا انسانية "كدماء الاطفال في غزة" ! "
إن (عقلاء) بني إسرائيل يعلمون عين اليقين أن عنف المجازر سيرتدّ وبالا عليهم، وهم يحذّرون قادتهم يوميًّا بأن "القتل " سَينهي مشروع " دولة اسرائيل " وسيسقطها "أخلاقيًّا " أمام الرأي العام العالمي، حتى وان ربحت سياسيًّا وحققت اعلى المكاسب عسكريًّا . و بعض حاخامات اليهود يحذرون من مغبة انهيار "المنظومة الأخلاقية اليهودية" التي طالموا حاولوا ان يبعثوهَا في أبنائهم بوصفهم "أمة سامية مختارة" وهم كديانة سماوية ترتكز على مفاهيم "الكابالا " التي ترقى بالانسان عن سفك الدماء !
ويبقى لدى الانسان العاقل أمل بأن "الوعي مفتاح الفرج " وان الاخلاق الانسانية ستبقى عقبة كؤود في وجه دولاب العنف برغم "المسرحيات السخيفة والمخيفة التي يدخلنا بها الساسة وهم بدماء الاطفال يتاجرون."
قال لي اليوم أحد الاشخاص :"نتمنى زوال المحنة بأسرع وقت " فأجبته : "المحنة الآنية لا شك ستزول قريبًا ولكن كارثة القرارات والاتفاقات والتسويات ستبقى! " فصنّاع الحروب و"القادة " سيعيدون انتاج" كوارثهم " تحت مسميات عدة لتحسين شروط توازن "القوى"، غير انهم أبعد ما يكون عن ابتكار حلول لصناعة الحياة، فالسلام نمط فكري، وتوجه سامٍ ، وسيره عادلة ومنهج انساني وليست صفقة تنجز عبر الشحاذة الديبلوماسية واستجداء المناصب و ركوب السلطة وبناء العروش بالجماجم!