استشهاد الامام الحسن الزكي العسكري (ع) في سامراء
بقلم|مجاهد منعثر منشد الخفاجي
تابع مسيرة والدهِ اعلى الأثر
و بنشر ه الدعوة العظيمة استمر
وجدانه بين الأمة يلفت نظر
و أصبح على الظالم يشكل خطر
نافذةٌ دعوتُهُ صامتةٌ ثورتُهُ
بصيحةٍ عن سحقِ ظلمٍ أعربا هذا سليلُ الأكرمينَ النجباء ..
لقد عاش الامام مرافقا ابيه الإمام الهادي (عليه السلام) في حلّه وترحاله .وترعرع في بيت وصفه الشبراوي قائلاً :فللّه درّ هذا البيت الشريف ، والنسب الخضم المنيف ، وناهيك به من فخار ، وحسبُك فيه من علوّ مقدار ، فهم جميعاً في كرم الأرومة وطِيب الجرثومة كأسنان المشط; متعادلون ، ولسهام المجد مقتسمون ، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماء عُلاً ونُبلاً ، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلاًّ ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بـ «غير» ولا بـ «إلاّ» ، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي ، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم ، والله يرفعه ، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم والله يجمعه ، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه»1. وظفر الإمام أبو محمد في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث ( يسبّح له فيها بالغدو والآصال* رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) 2.
قال الامام الهادي (ع) أنّه امتداد الرسالة والامامة فكان يوليه أكبر اهتمامه ، فقد قال عنه (ع) :ـ أبو محمد ابني أصحّ آل محمد(صلى الله عليه وآله) غريزةً وأوثقهم حجة . وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها . 3.
الامام العسكري في حياة ابيه الامام الهادي (عليهما السلام )
عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) مدة إمامته ستّة من خلفاء بني العباس، المعتصم منذ سنة (220 ـ 232 هـ ) والمتوكل (232 ـ 247 هـ) حيث قتل على يد الأتراك ، ثم جاءت أيام المنتصر ـ وكانت مدّة خلافته ستة أشهر ويومين، ثم المستعين (248 ـ 252هـ) كما عاصر الشطر الأكبر من خلافة المعتز (252 ـ 255هـ) حيث كان استشهاد الإمام الهادي (عليه السلام) سنة (254هـ) تاريخ الطبري : 7 أحداث سنة 234 وسنة 254 هـ ،
كان عمر الإمام الهادي (ع) عند ولادة ابنه الإمام العسكري (ع) تسع عشر سنة وتسعة شهور وثمانية أيام ، ولما أشخص الإمام الهادي (ع) إلى العراق سنة ست وثلاثين ومائتين أشخص الإمام العسكري (ع) معه ، وكان له يومئذٍ من العمر أربع سنين وأشهر.وقد عاش الإمام العسكري (ع) بعدئذٍ مع أبيه الإمام الهادي (ع) حتى شهادته في سامراء ، وكان للإمام العسكري (ع) يومئذٍ إثنتان وعشرون سنة وشهران وثلاثة وعشرون يوماً .
وعاش بعد والده (ع) مدة إمامته هو (ع) خمس سنوات وثمانية أشهر وخمسة أيام ، قضاها في سامراء أيضاً ، فكانت مدة حياته (ع) الشريفة على نحو التدقيق - سبعاً وعشرين سنة وعشرة أشهر ، وثمانية وعشرين يوماً.
فحينما رُحِّلَ مع أبيه الإمام الهادي بأمر المتوكّل العباسي من المدينة إلى سامراء (سُرَّ مَن رأى) كان عمره سنتين أو أربع سنوات فقط، وكانت المنطقة التي أُسكنوا فيها منطقة الجيش والجند، ولذلك كانت تسمّى (عسكر)، ومَنْ يقيم فيها يسمى (عسكري) نسبة إلى هذه المنطقة، ولذلك أطلق على الإمام هذا اللقب.
وكانت الظروف التي تمر بها الدولة العباسية بعد تولي المتوكل ظروفاً صعبة جداً ، إذ إنها كانت تعد مؤشراً على ضعفها ، وتشكل بدايةً لانحلالها ، فالحروب الداخلية والخارجية من جهة ، والقتال بين أبناء الخلفاء على كرسي الحكم من جهة اُخرى كالذي حصل بين المستعين والمعتز والذي أدّى الى تولي المعتز وخلع الاول عام (252هـ) 4.
. وجراء الصرعات في كل واحده منها كان له تأثيره المباشر في ايجاد الضعف والانحلال .
والاحداث الداخلية كانت مليئة بنشاط الخوارج والذي كان نشاطاً قوياً فعالاً مدعماً بالمال والسلاح بقيادة مادر الشاري ، وهناك أيضاً الثورات والانتفاضات العلوية الى جانب نزاعات الطامعين في السلطة .
وان الدولة كانت تعاني من سوء الحالة الاقتصادية نتيجة للبذخ والاسراف الذي كانت تعيشه رجالات البلاط والوزراء وحاشيتهم .
وكانت للإمام الهادي (عليه السلام) منزلة سامية ومكانة رفيعة القدر لدى أهل المدينة لإحسانه إليهم وعلاقته القوية معهم ، فلمّا أشخصه المتوكل وأرسل يحيى ابن هرثمة لجلب الإمام من المدينة إلى سامراء عام (234هـ) اضطرب الناس وضجّوا كما يروي يحيى بن هرثمة نفسه حيث قال : «فذهبت الى المدينة فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهادي (عليه السلام) ـ وقامت الدنيا على ساق ، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد ، لم يكن عنده ميل الى الدنيا ، فجعلت أسكّنهم ، وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه ، وأنه لا بأس عليه ، ثم فتّشتُ منزله فلم أجد إلاّ مصاحف
وأدعية ، وكتب علم ، فعظم في عيني» 5.
. وتعكس هذه الرواية لنا حجم ما كان يؤديه الإمام الهادي (عليه السلام) من دور في المدينة والذي نتج عنه حصول روابط ووشائج قوية تصل الاُمة به كما كانت توصله بالأمة ، وربما كان المتوكل قد وقف على هذا التأثير البالغ للإمام(عليه السلام) فكان سبباً لإبعاده عن المدينة المنوّرة الى سامراء التي أسسها العباسيون أنفسهم والتي عُرفت بميول أهلها والذين كان أغلبهم من الأتراك إلى العباسيين أوّلاً ، بالاضافة الى ما عرفوا به من تطرّف في التوجه الى السيطرة والسلطة ثانياً .
طيلة عقدين من الزمن لازم الإمام أبو محمد (عليه السلام) أباه وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والاعتداء . وانتقل الإمام العسكري (عليه السلام) مع والده إلى سرَّ من رأى (سامراء) حينما وُشي بالإمام الهادي (عليه السلام) عند المتوكل حيث كتب إليه عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي : «يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام ـ أي علي الهادي (عليه السلام) ـ فأشخصه عن المدينة مع يحيى بن هرثمة حتى صار إلى بغداد ، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك ، وركب اسحاق بن إبراهيم لتلقّيه ، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته ، فأقام إلى الليل ، ودخل به في الليل ، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرَّ من رأى 6. .
وحتى يتفادى المتوكل المضاعفات أمر باستقدام الإمام الهادي إلى سامراء في محاولة لتقريبه من البلاط بغية عزله عن قواعده الشعبية التي كانت تتسع يوماً بعد يوم.. والأهم من ذلك لكي يضعه تحت رقابة القصر ويرصد حركاته بعيون جواسيسه.. ومن ثم قتله!.
. وحتى لا يثير ضجة تؤدي إلى سخط الأمة عليه وثورتها ضده، لجأ المتوكل إلى الأسلوب الخسيس، الحيلة والخداع والتظاهر بالمودة التي اتبعها أجداده من خلفاء بني العباس مع أئمة أهل البيت الأطهار(ع).. فكما فعل المنصور مع الإمام جعفر الصادق(ع) والرشيد مع الإمام موسى الكاظم(ع) والمأمون مع الإمامين الرضا والجواد(ع) فعل المتوكل نفس الشيء مع الإمام الهادي.. فبعث أحد قادة جيشه (يحيى بن هرثمة) ومعه فرقة من الجند إلى المدينة المنورة، لإحضار الإمام علي الهادي بالقوة إلى سامراء.. وأمرهم بتفتيش بيت الإمام والبحث عن مستمسك أو دليل إدانة بالعمل والتآمر ضد الدولة.. غير أن الله أحبط مسعاهم وخيب آمالهم، يقول ابن هرثمة: )ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم) 7.
وأسرف المتوكّل العباسي في الجور والاعتداء على الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) ففرض عليه الاقامة الجبرية في سامرّاء وأحاط داره بالشرطة تحصي عليه أنفاسه وتمنع العلماء والفقهاء وشيعته من الاتصال به ، وقد ضيّق المتوكّل على الإمام في شؤونه الاقتصادية أيضاً ، وكان يأمر بتفتيش داره بين حين وآخر ، وحمله إليه بالكيفية التي هو فيها .
وكان من شدّة عداء المتوكّل لأهل البيت (عليهم السلام) أن منع رسميًّا زيارة قبر الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) بكربلاء8.
وأمر بهدم القبر الشريف الذي كان مركزاً من مراكز الاشعاع الثوري في أرض الإسلام .
ومَنَعَ القاصدين لزيارته عن زيارته; لأن المتوكل كان يتجاهر بعدائه لآل أبي طالب ومطاردتهم ، ولم يرد تجاه تلك الاحداث أي تعليق من قبل الإمام الهادي(عليه السلام)، ويمكن أن يقال: «انه لم يرد إلينا عن موقف الإمام (عليه السلام) مع الخلفاء شيء سوى ما جاء عن موقفه من المتوكل وهو أقل القليل» 9.
وكان المتوكل يحسب الف حساب للامام الهادي (ع) حتّى انّ يحيى بن أكثم قال للمتوكل : «ما نحبّ أن تسأل هذا الرجل ـ أي الإمام (عليه السلام) ـ شيئاً بعد مسائلي هذه وإنه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها ، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة»10.
لقد سعى جماعة بالامام (عليه السلام) إلى المتوكل ، وأخبروه بأن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها وأنه يطلب الأمر لنفسه ، فارسل المتوكل مجموعة من الأتراك ليلاً ليهجموا على منزله على حين غفلة ، فلمّا باغتوا الإمام (عليه السلام) وجدوه وحده ، مستقبل القبلة وهو يقرأ القرآن ، وليس بينه وبين الأرض بساط فأخذ على الصورة التي وجد عليها ، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثُل بين يدي المتوكل وهو في مجلس شرابه وفي يده كأس ، فلمّا رآه أعظمه وأكبره وأجلسه إلى جانبه ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل عنه ولم تكن للمتوكّل حجة يتعلّل بها على الإمام (عليه السلام) . فناول المتوكل الإمام (عليه السلام) الكأس الذي في يده .